0 تعليق
1002 المشاهدات

من العزل إلى الدمج.. ومن الرفض إلى القبول



الكاتب : أ. د. جمال الخطيب

التحدي الرئيسي الذي يواجه المجتمعات المعاصرة ليس قلة الموارد بل الإرادة لتطوير الوسائل والبحث خارج حدود النظام التعليمي التقليدي لإقامة قنوات التواصل وترسيخ التعاون بين نظم الخدمات الاجتماعية

يتبين المتأمل في التطور التاريخي للتربية الخاصة أن هذه المهنة أخذت بالتحول من ممارسة العزل التام إلى تطبيق الدمج الكامل بحيث يتم تعليم الأطفال ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة في المدارس العادية. فقد أصبح عدد كبير من دول العالم يتبنى فلسفة الدمج للجميع ولكن باستثناء الأطفال ذوي الإعاقات الشديدة والمتعددة أحياناً. بعبارة أخرى، إن التوجه السائد حالياً هو ذلك الذي يطالب بأن يتحمل معلم الصف العادي مسؤولية تعليم وتلبية احتياجات الأطفال المعوقين مع توفير نظم الدعم التنظيمي والإداري والتدريسي لهذا المعلم.

ولكن معارضي هذه الفلسفة يرون أن دمج التربية العامة والتربية الخاصة لن يحسّن أداء المعلم العادي أو أداء المعلم الخاص ولن يطور التعاون المنشود بينهما، ليس ذلك فحسب، بل إن هؤلاء يعتقدون أن نتيجة هذا الدمج قد تكون الغاء مهنة التربية الخاصة عملياً ومثل هذا الالغاء من وجهة نظرهم، سيكون في ضوء حسابات خاطئة وآراء غير واقعية بل وساذجة أيضاً. وهذه الحسابات والآراء تتمثل بالاعتقاد بأن جميع الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة يتعلمون في أفضل صورة إذا التحقوا في الصف العادي.

والواقع أن مفهوم الدمج قد تعرض لسوء فهم كبير وأحدث إرباكاً حقيقياً لأن البعض رأى فيه دعوة لإغلاق فصول ومدارس التربية الخاصة وتعليم الأطفال المعوقين دون استثناء في الفصول الدراسية العادية. فإذا لم يكن الدمج يعني تعليم جميع الأطفال المعوقين في الفصول العادية فماذا يعني إذن؟ والإجابة هي باختصار إن (الدمج هو توفير فرص التعلم القائمة على المساواة للأطفال ذوي الإعاقات البسيطة وذلك من خلال الحاقهم بالبيئة التربوية الأكثر ملاءمة وقدرة على تلبية حاجاتهم. وفي كثير من الحالات، تتمثل هذه البيئة في الصف الدراسي العادي، إن لم يكن طوال الوقت فبعض الوقت على أقل تقدير. وفي أحيان أخرى، فالبيئة التربوية الأقل تقييداً لا تشمل الصف الدراسي العادي إطلاقاً).

فالدمج يأخذ أشكالاً مختلفة فهو لا يقتصر كمفهوم على أن يتعلم الأطفال ذوو الاحتياجات التربوية الخاصة في الصف العادي ولكنه قد يعني أحياناً اندماج هؤلاء الأطفال مع الأطفال من غير المعاقين في الأنشطة الاجتماعية والمواد غير الأكاديمية كالتربية الرياضية والتربية الفنية والموسيقية وهذا الدمج غير الأكاديمي يحدث عادة عندما تفرض الحاجات الخاصة للطفل تعديلات جوهرية على المنهاج أو استبداله بالكامل بمنهاج مختلف الأمر الذي يعني بالضرورة التحاق الطفل بفصل غير الفصل الدراسي العادي أو حتى بمدرسة غير المدرسة العادية. وعلى أي حال فإن الجدل الكبير الذي نجم عن فلسفة المدرسة الجامعة في السنوات الماضية يجب ألا يدفع بأحد إلى الاعتقاد بأن ثمة من يؤمن في الميدان بأن تعلم الطلاب المعوقين في المدرسة العادية ليس هدفاً فالاختلافات تتمحور حول الوسيلة وليس الغاية. فعلى الرغم من أن العاملين في ميدان التربية الخاصة يتخذون مواقف متباينة إزاء حجم الدمج وطبيعته، إلا أن الجميع يتفق من حيث المبدأ على أن الهدف المعلن من الغالبية العظمى من برامج التربية الخاصة هو إعادة الطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة إلى المدرسة العادية على أوسع نطاق ممكن وبأسرع وقت ممكن. وقد كان هذا الهدف على الدوام أحد أكثر الأهداف التي تتوخى التربية الخاصة تحقيقه على مدى ربع القرن الماضي.

وقد يكون مصطلح (الدمج) مصطلحاً جديداً وخاصة في الدول العربية ولكنه كان يمارس على الدوام في المدارس وإن كان بأساليب غير فعالة ودون أن يتم التخطيط له. فلو عاد الواحد منا في ذاكرته إلى أيام المدرسة لتذكر بسهولة بعض الزملاء الذين كان لديهم صعوبات من نوع أو آخر.

من ناحية أخرى، لو ألقينا نظرة سريعة على نسب الطلاب الذين يتسربون أو يعيدون الصف مرة أو أكثر أو يرسبون في مادة أو أكثر لأدركنا أن أعداداً كبيرة جداً من الطلاب في المدارس العادية تواجه صعوبات حقيقية في التحصيل والتكيف والتعلم. وليس هناك ادعاء بأن كل من يعيد الصف أو يرسب أو يتسرب هو طالب ذو حاجة خاصة، فمن المعروف أن مثل هذه النتائج قد تحدث بفعل جملة من العوامل الأسرية والاقتصادية والبيئية وغيرها. ولكن نسبة من أولئك الطلاب (وليس لدينا وسيلة موضوعية لتحديدها) لدينا حاجات تعلمية خاصة لم يتم التعرف عليها ولم تتخذ أية اجراءات مناسبة بشأنها.

بعبارة أخرى، إن الدمج كان ممارسة سائدة ولكن بطريقة تلقائية دون تصنيفات وتعديلات كافية. ومع تطور مهنة التربية الخاصة بما تتضمنه من كشف وتشخيص وتصنيف وبدائل ومناهج وأساليب تربوية خاصة أصبحت المدارس (تفرز) هؤلاء الطلاب وترفض وجودهم في الصف لأنهم غير قادرين على التعلم فيه. والقضية هي أن الاتهام وجه إلى الطلاب فنعتوا بعدم القابلية للتعلم ولم يوجه للنظام التعليمي نفسه بوصفه عاجزاً عن تعليمهم.

وترتب على ذلك حرمان أعداد كبيرة جداً من الحق في التعلم أسوة بأقرانهم. وبعد عقود من الفصل والعزل في مدارس ومؤسسات وفصول خاصة أدركت المجتمعات الإنسانية أن ذلك لم يقدم الحلول المرجوة وأخذت تتراجع تدريجياً عن مواقفها وتزايدت الدعوات لإعادة الأطفال المعوقين إلى حيث كانوا في الماضي، إلى المدارس العادية والنظام التربوي العام اللهم إلا إذا كانت إعاقاتهم شديدة تمنعهم أو تمنع الأطفال الآخرين من التعلم في الصف العادي. وفي الحقيقة، فقد أصبح معظم الأطفال ذوو الاحتياجات التعلمية الخاصة يتلقون تعليمهم في الصفوف العادية في الدول الصناعية المتقدمة.

فالعقود القليلة الماضية شهدت انجازات في تعليم الطلبة المعوقين لم يكن أحد يعتقد أنها قابلة للتحقيق ولم يكن أحد يأخذها على محمل الجد. ولعلّ التحدي الرئيسي الذي يواجه المجتمعات المعاصرة ليس قلة الموارد وإنما الإرادة لتطوير الوسائل اللازمة لتحقيق الغايات. وهذا يعني البحث عن الحلول والمساعدة خارج حدود النظام التعليمي التقليدي بحيث يتم إقامة قنوات التواصل وترسيخ أسس التعاون بين نظم الخدمات الإنسانية في المجتمع.

ولعلّ خطأً قد حدث عندما تطورت التربية الخاصة كنظام مواز للتربية العادية. فالفصل بين هذين النظامين فصل مصطنع وينجم عنه ارباك غير مبرر. وقد أثبتت مئات الدراسات أن عدداً غير قليل من الأطفال يخسرون كثيراً في ظل نظام التربية الثنائي (التربية العادية ـ التربية الخاصة) لأنهم لا ينتمون كاملاً للتربية العادية ولا هم ينتمون كاملاً للتربية الخاصة. بعبارة أخرى، هناك أعداد كبيرة من الأطفال من ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة لا يمكن تلبية احتياجاتهم في المدرسة العامة وبناء على ذلك فهم يوضعون في مدارس التربية الخاصة بالرغم من أنهم ليسوا طلبة معوقين.

وما يعنيه ذلك هو ضرورة التوجه نحو المدرسة الفعالة. وللأسف، فخلافاً للتوقعات والتوصيات الصادرة عن عدة جهات فإن السنوات الماضية قد شهدت تدهوراً في نوعية التعليم المقدم للأطفال في العالم. فقد أشار جيمس جرانت (Grant) المدير العام السابق لمنظمة اليونيسيف إلى ذلك في تقريره حول وضع الأطفال في العالم عام 1991. وفي ضوء هذا الواقع الذي يؤثر على الأطفال جميعاً، كيف لنا أن نوفر التعليم النوعي للأطفال المعوقين؟ وإذا كان هذا السؤال يطرح نفسه في كل دول العالم فهو سؤال ينطوي على تحديات خاصة في الدول النامية حيث قد يصل عدد الأطفال في الصف إلى أربعين أو خمسين طفلاً الأمر الذي يجعل المدارس تعزف عن قبول الأطفال المعوقين ويمنع أولياء الأمور من مجرد التفكير بهذا الأمر.

إن بذور الدمج ترعرعت ونمت بفضل عدة عوامل منها: الحركات الداعية للدفاع عن حقوق المعاقين، والقضاء، والتشريعات، والدراسات والبحوث العلمية والتقويمية، والنضج المهني للعاملين في ميدان التربية الخاصة. وتغير اتجاهات المجتمع نحو الطرق المناسبة للتعامل مع المعوقين. وليس من شك في أن التساؤل حول مدى ما تحقق من هذا كله في الدول العربية تساؤل مشروع ومبرر، فهذا البحث يعالج فلسفة الدمج واحتمالات تنفيذها وشروط نجاحها في الدول العربية، ويقيناً أن لهذه الدول خصوصياتها التي ليس من الحكمة تجاهلها.

وثمة قضية بالغة الأهمية فيما يتصل بالجهود الدولية في مجال الإعاقة وتلك القضية هي أن التعاون الدولي وإن كان له أثر كبير في تطوير الخدمات إلا أنه ينطوي على المخاطر أيضاً. وعلى وجه التحديد، فإن الدول النامية كثيراً ما تعاني من خبراء دوليين أو محليين ليسوا على اتصال بأرض الواقع مما يدفعهم إلى التوصية بتصدير برامج من دولة إلى أخرى دون أن يكون مكتوباً لها فرص النجاح بسبب انفصالها تماماً عن الحقائق المحلية.

إن ما يشغل الدول الصناعية المتقدمة قد لا يكون في حسبان الدول النامية. فمن حقنا أن نتساءل عن مدى ملاءمة القضايا الملحة التي تناقش في الدول المتقدمة بالنسبة للأطفال المعوقين في الدول النامية. ومن تلك القضايا: الدمج والتعليم في البيئة الأقرب إلى البيئة الطبيعية، والخطط التربوية الفردية، ومصادر التمويل، واستخدام المحاكم لضمان الحق في التعلم، وبرامج التدريب النوعية للمعلمين وغيرها العديد من القضايا التي قد تبدو للبعض ترفاً لا علاقة لهم بها عندما تكون الهموم اليومية لأسرة الطفل المعوق تتمركز حول سد الحاجات الأساسية من طعام وشراب وحول الاعتقادات الخرافية للجيران حول الإعاقة وعدم القدرة على ايجاد مكان يتعلم فيه طفلهم.

ومع أن البحوث العلمية في العقدين الماضيين بينت فاعلية الدمج إلا أن ما هو غير واضح تماماً بعد هو العناصر المحددة اللازمة لنجاح هذا الدمج. ولكن هذه العناصر بدأت تتضح بشكل أفضل في السنوات الماضية وهي:
1

  • التعديل والتكييف المادي والمعنوي لفصل الدراسة ليشمل فيمن يشملهم الأطفال المعاقين.
2

  • توفير خبرات تعلمية متعددة الحواس.
3

  • مراعاة مواطن الضعف ومواطن القوة لدى الطفل عند تطوير المنهاج.
4

  • حث الأطفال العاديين على قبول وتحمل الأطفال الذين يختلفون عنهم.
5

  • بعض التركيز على الاستقلالية والاستكشاف للبيئة.
6

  • توفير الفرص للاختلاف والتفاعل الاجتماعي.
     
  • إزالة الحواجز.
  •  
  • استخدام الأنشطة الجماعية وغير الفردية.
7

  • كذلك تشير البحوث إلى أهمية:
    أ
  • تحديد أهداف البرنامج.
  • ب
  • تحديد فلسفة البرنامج.
  • ج
  • تحديد آلية الإشراف على البرنامج.
  • د
  • تحديد آلية متابعة البرنامج.
  • هـ
  • تحديد آلية تدريب العاملين.
وبوجه عام فقد ركزت الدراسة الحالية على القضايا الأساسية التالية التي لا يتوقع إحداث نقلة نوعية في النظام التربوي بدون مراعاتها:
1

  • إن الطفل هو محور العملية التربوية.
2

  • إن على المدرسة أن تعيد النظر في رسالتها ووظيفتها بحيث تصبح مكاناً لا يستثني أحداً من الأطفال.
3

  • إن ثمة فروق فردية بين الأطفال وعلى النظام التربوي أن يراعي التنوع ويتفهمه.
4

  • إن مشاركة الأسرة الفاعلة في العملية التربوية أمر لا غنى عنه.
5

  • إن ثمة حاجة إلى اعتماد تشريعات وسياسات تكفل حق الجميع في التعلم إلى أقصى ما تسمح به قدراتهم.
6

  • إن تطوير النظم التربوية يتطلب تعاوناً وتضامناً وتبادل الخبرات والمعرفة.
7

  • إن ثمة حاجة إلى إعادة النظر في برامج إعداد المعلمين والمناهج الدراسية وأساليب ووسائل التعليم بحيث يصبح النظام التربوي العام شمولياً ومرناً ويستجيب للاحتياجات الخاصة لكل المتعلمين .

 

 

 

كتـاب الأمـل

+
سمر العتيبي
2018/12/09 3589 0
راما محمد ابراهيم المعيوف
2017/12/29 3911 0
خالد العرافة
2017/07/05 4513 0